البحث


مدونة السيف الأثري للرد على ضلالات الأشعرية

الاثنين، 29 أغسطس 2016

الأشاعرة يقولون بخلق القرآن

بواسطة : Unknown بتاريخ : 3:07 م

القول بخلق القرآن عند الأشاعرة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد،،،

لمحة تاريخية

 من الأمور المعلومة لدى كل من له عناية بالعلم الشرعي المحنة التي وقعت لأئمة الإسلام وعلى رأسهم إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، وهي الفتنة المشهورة بفتنة (خلق القرآن).
تلك الفتنة التي أجبر الناس فيها على القول بخلق القرآن، فمنهم من نطق ليخلص من العذاب، ومنهم من ثبته الله - عز وجل - فلم يجبهم بشيء، وظل ثابتًا على عقيدته، وعلى القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق.
وكانت الناس وقتئذٍ على قولين لا ثالث لهما:
الأول: أن القرآن مخلوق، وهو قول الجهمية وتابعتهم المعتزلة.
الثاني: أن القرآن غير مخلوق، بل هو كلام الله عز وجل.
ثم قام رجل يسمى عبد الله بن كلاب (ت 241هـ) وأحدث قولاً ثالثًا، أراد التوسط بين أهل السنة وبين المعتزلة، فقال: إن لله كلامًا قائمًا بذاته، لا يتعلق بإرادة ولا مشيئة، وهذا قول ما قاله قبله أحد.
يقول الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى -: فأحدث ابن كُلاب القول بأنه كلامٌ قائمٌ بذات الربّ بلا قدرة ولا مشيئة. فهذا لَم يكن يتصوّره عاقل، ولا خطرَ ببال الجمهور، حتى أحدث القول بِهِ ابن كُلاب. تاريخ الإسلام (5/ 982).
وإذا كانت صفة الكلام - في نظر ابن كلاب - الثابتةُ لله - عز وجل - قائمةً بذاته بلا قدرة ولا مشيئة، فإنه يلزم منه أن كلامه - سبحانه وتعالى - لا يتجزأ ولا يتبعض، وليس بحرف ولا بصوت، بل يلزم منه أن القرآن الذي نقرؤه مخلوق، وهذه اللوازم قد التزمها ابن كلاب وهو وجماعته.
وكان الإمام أحمد - رحمه الله - من أشد الناس على ابن كلاب وأتباعه كالحارث المحاسبي وغيره، فقد ذكر الحاكم في ترجمة إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - رحمه الله تعالى - أنه قال:  فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره. نقله الذهبي في "السير" (14/ 380(.
وقد بان لأهل السنة فساد قول الكلابية، وأنه يؤول إلى القول بخلق القرآن،  حتى إن أحد أئمتهم – وهو الحارث المحاسبي – قد رجع عن مقالته هذه، فأثبت لله – تعالى – كلامًا بحرف وصوت.
يقول الكلاباذي (ت 380هـ): وقالت طائفة منهم: كلام الله حروف وصوت وزعموا أنه لا يعرف كلامه إلا كذلك مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى في ذاته غير مخلوق وهذا قول حارث المحاسبي ومن المتأخرين ابن سالم. التعرف لمذهب أهل التصوف (ص 19).


ولستُ أريد بيان أن كلام الله بصوت وحرف، فلذلك مقامه وأدلته، وأقوال السلف فيه مشهورة كقول الإمام البخاري – رحمه الله تعالى –: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بُعد كما يسمع من قُرب. خلق أفعال العباد (ص 98).
وإنما أريد بيان المباينة بين قول السلف وقول الأشعرية.

مذاهب الناس في القرآن الكريم:


لقد بين الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – مذاهب الناس في القرآن الكريم، حيث قال:
ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال:
الأول: قول المعتزلة أنه مخلوق.
والثاني: قول الكلابية أنه قديم قائم بذات الرب ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه.
والثالث: قول السالمية إنه حروف وأصوات قديمة الأعين وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة.
والرابع: قول الكرامية إنه محدث، لا مخلوق وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي بعده.
والخامس: أنه كلام الله غير مخلوق أنه لم يزل يتكلم إذا شاء نص على ذلك أحمد في كتاب الرد على الجهمية. فتح الباري (13/ 493).

أقول، وليس هذا مذهب أحمد فحسب، بل هو مذهب السلف أجمعين.
كما أن القول بأن الله يتكلم إذا شاء، وهي المسألة المعروفة بتعلق صفة الكلام بإرادة الله ومشيئته، فهذا هو القول الصواب، فإن الله – تعالى – يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فالله – عز وجل – إذا أراد شيئًا قال له قولاً حقيقيًّا: (كن) فليس هذا مجازًا عن سرعة التكوين، يقول السرخسي: قوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن التكوين كما زعم بعضهم. أصول السرخسي (1/ 18).
بل لقد أقر الرازي بأن هذا القول هو أصح الأقوال في المسألة، يقول الحافظ ابن حجر: وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا، وأطال في تقرير ذلك. فتح الباري (13/ 455).


مخالفة الأشعري لمذهب السلف والحنابلة في صفة الكلام


لقد كان لتحذير الإمام أحمد وأئمة السلف من ابن كلاب وأتباعه أثر كبير في الحد من انتشار المذهب الكلابي، حتى كاد أن ينقرض كما انقرضت طوائف من قبله ومن بعده، إلا أن الإمام أبا الحسن الأشعري - وبعد رجوعه من الاعتزال – رجع إلى مذهب ابن كلاب، وانتصر له، ثم رجع عن ذلك كله إلى مذهب السلف الصالح، وعرفه معرفة إجمالية، وصنف في هذه المرحلة الأخيرة كتابه المشهور - الثابت عنه ثبوتًا قطعيًّا – وهو كتاب "الإبانة"، وكتاب "رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب"، ومقالات الإسلاميين.
ومما يؤكد رجوعه هو أنه أفرد لبيان أقوال الكلابية مبحثًا مستقلا من كتابه "مقالات الإسلاميين"، بعد ذكره أقوال (أصحاب الحديث وأهل السنة) ولو كان ابن كلاب عند الأشعري – أعني في مرحلة الأشعري الأخيرة – من أهل السنة لما أفرد لأقواله مبحثًا، ولأدخله في جملة أهل السنة.
بل يقول الأشعري – رحمه الله -: وزعم عبد الله بن كلاب أن ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل وأن موسى عليه السلام سمع الله متكلماً بكلامه وأن معنى قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} معناه: حتى يفهم كلام الله، ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه: حتى يسمع التالين يتلونه. مقالات الإسلاميين (ص 585).
فبهذا نعلم أن للأشعري طورًا ثالثًا، وأنه يخالف مذهب الأشاعرة بعده، يقول الإمام شهاب الدين الآلوسي المفسر بعد أن ذكر عقيدة الأشعري وكتابه "الإبانة" وأنه سلفي العقيدة، قال بعد ذلك: ويعلم من هذا أن ما عليه الأشاعرة غير ما رجع إليه أمامهم في آخر أمره من اتباع السلف الصالح، فليتهم رجعوا كما رجع، واتبعوا ما اتبع. غرائب الاغتراب (ص 386).

ولأجل ذلك يستميت الأشعرية في إبطال القول بالمرحلة الثالثة للإمام الأشعري – رحمه الله تعالى –، بل إذا ذكروا الأشعري أو قولا له أرادوا طوره الثاني، وهو الأخير في نظرهم.
ويصور لنا الشهرستاني – وهو أشعري – مقالة السلف والحنابلة، وذلك بعد عرضه لمذهبه، وانتصاره لمقالة أهل نحلته، يقول الشهرستاني وهو يصور مقالة السلف والحنابلة – إلا أن فيها نظرًا –، ثم يقر بأن الأشعري ابتدع وخرق الإجماع:
قالت السلف والحنابلة : قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله, وأن ما نقرؤه ونسمعه ونكتبه عين كلام الله, فيجب أن يكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله, ولما تقرر الاتفاق على أن كلام الله غير مخلوق فيجب أن تكون الكلمات أزلية غير مخلوقة.
ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين: أحدهما: القدم, والثاني: الحدوث, والقولان مقصوران على الكلمات المكتوبة والآيات المقروءة بالألسن, فصار الآن إلى قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات, وقد حسن قول ليس منهما على خلاف القولين، فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات دون التعرض لصفة أخرى وراءها, وكانت المعتزلة على إثبات الحدوث والخلقية لهذه الحروف والأصوات دون التعرض لأمر وراءها، فأبدع الأشعري قولا ثالثا, وقضى بحدوث الحروف, وهو خرق الإجماع, وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة، وهو عين الابتداع, فهلا قال: ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله تعالى , دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية!. نهاية الإقدام (ص 302- 303).
ويتابع الشهرستاني قائلاً: قالت السلف: لا يظن الظان أنا نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا وصارت صفات لنا, فإنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها، وقد بذلت السلف أرواحهم، وصبروا على ألوان البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون ان يقولوا: القرآن مخلوق، ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا.... إلى آخر ما قال.
وفي كلامه نظر، فإن السلف ما قالوا بقدم ذات الحروف والأصوات، بل قالوا بقدم صفة الكلام، وأن الحروف والأصوات قديمة، وأما القرآن الكريم فمن الله بدأ، وإليه يعود، وهذا يدلك على أن للقرآن من الله بداية، وله نهاية، وهو يتبعض ويتجزأ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله – تعالى –.
ويكفينا إقرار الشهرستاني بأن الأشعري – في مرحلته الثانية – ابتدع القول بأن القرآن الذي نقرؤه ليس عين كلام الله، وهو عين القول الذي قالت به الكلابية.
ويقول الحافظ ابن الجوزي – رحمه الله – وهو من منزهة الحنابلة عند الأشعرية، يقول في كتابه "المنتظم": أبو الحسن الأشعري المتكلم، ولد سنة ستين ومائتين، وتشاغل بالكلام، وكان على مذهب المعتزلة زمانا طويلا، ثم عنّ له مخالفتهم، وأظهر مقالة خبطت عقائد الناس وأوجبت الفتن المتصلة.
وكان الناس لا يختلفون فِي أن هذا المسموع كلام الله، وأنه نزل به جبريل عليه السلام على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالأئمة المعتمد عليهم قالوا أنه قديم ([1])، والمعتزلة قالوا هُوَ مخلوق، فوافق الأشعري المعتزلة في أن هذا مخلوق، وقال: ليس هذا كلام الله، إنما كلام الله صفة قائمة بذاته، ما نزل ولا هو مما يسمع، وما زال منذ أظهر هذا خائفا على نفسه لخلافه أهل السنة، حتى أنه استجار بدار أبي الحسن التميمي حذرا من القتل، ثم تبع أقوام من السلاطين مذهبه فتعصبوا له وكثر أتباعه حتى تركت الشافعية معتقد الشافعي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، ودانوا بقول الأشعري. (14/ 29).
وقد أقر الحافظ ابن حجر بأن القول بخلق القرآن لازم للأشعرية، ففروا منه والتزموا لوازم باطلة، حيث قال: ويلزم من أثبت ذلك [الكلام النفسي] أن يقول بخلق القرآن وهو يأبى ذلك ويفر منه فألجأ ذلك بعضهم إلى ادعاء قدم الحروف كما التزمته السالمية ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته. فتح الباري  (13/ 493).


القرآن غير مخلوق


لقد تواتر عن السلف أن القائل بخلق القرآن كافر، ففي "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" أن الإمام أبا داود سأل الإمام أحمد فقال: قلت لأحمد: من قال: القرآن مخلوق أهو كافر؟ قال: أقول: هو كافر. (1/ 353 برقم 1697).
وقال أبو داود أيضًا: سمعت الربيع بن سليمان المؤذن، قال: سمعت أبا يعقوب البويطي، يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. (1/ 359 برقم 1729).
وروى مثل ذلك عن معاذ بن معاذ ويزيد بن هارون ووأحمد بن صالح ابن الطبري، وغيرهم.
وذكر البخاري في "خلق أفعال العباد" عن سفيان الثوري قوله: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. وكذا قال وكيع.
وقال البخاري - رحمه الله تعالى -: وقال ابن عيينة، ومعاذ بن معاذ، والحجاج بن محمد، ويزيد بن هارون، وهاشم بن القاسم، والربيع بن نافع الحلبي، ومحمد بن يوسف، وعاصم بن عاصم، ويحيى بن يحيى، وأهل العلم: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. خلق أفعال العباد (ص 38- 39).
والآثار في ذلك عن السلف بلغت غاية التواتر.

وثوب الأشعرية على مقالة السلف، وتحريف مرادهم:


بعد أن قرر الأشعرية عقيدتهم، وانتصروا لها، والتي وافقت أصولهم التي أصلوها كمنع قيام الحوادث بذات الله – تعالى –، والاستدلال على وجوده بحدوث الجواهر والأعراض، وغير ذلك، وبعد أن قالوا بأن القرآن الذي نقرؤه والذي بين الدفتين مخلوق، جوبهوا بمقالة السلف المتواترة عنهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فهم بين أمرين أحلاهما مر:
فإما أن يهدموا أصولهم وعقيدتهم، ليوافقوا أقوال السلف.
وإما أن يصرحوا بمخالفتهم لقول السلف، وأنهم وافقوا الجهمية والمعتزلة.
فما كان منهم إلا أن صرح بعضهم – كالرازي وغيره – أنهم يوافقون المعتزلة في القول بخلق القرآن، وأما التصريح بمخالفة السلف فسبق بيانه من الشهرستاني.
وإن كان جل الأشعرية بل كلهم يدعون اتباع السلف، وأنهم لا يخالفونهم، فلأجل ذلك حاولوا الوثوب على مقالة السلف وتحريف مرادهم.
فحرفوا قول السلف أن القرآن كلام الله، وقالوا أنهم أرادوا أنه عبارة عنه، ودال عليه.
ولكن ماذا صنعوا فيما تواتر عن السلف أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر؟
فالكلام – بزعمهم – قد يُطلق على الكلام النفسي، وقد يُطلق على الكلام اللفظي، من قبيل الحقيقة في أحدهما والمجاز في الآخر، أو من قبيل الاشتراك اللفظي، فيقولون مراد السلف بأن كلام الله غير مخلوق، يريدون به الكلام النفسي.
ولكن: هل من الممكن أن يصنعوا مع (القرآن) كما صنعوا مع (الكلام) ويحرفون دلالة القرآن على ما يُقرأ أو ما يُجمع إلى دلالته على الكلام النفسي؟
هذا ما لا تُساعد عليه اللغة أبدًا؛ لأن القرآن في اللغة إما من القراءة، ومنه قوله – تعالى –: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} وإما من الجمع، ومنه "القرية" لأنها تجمع البيوت والمساكن بأهلها.
والكلام النفسي لا يُقرأ ولا يُجمع، فبينه وبين دلالة (القرآن) تنافر.
لأجل هذا وثب المتكلمون على دلالة كلمة (القرآن)، ويصور لنا الزركشي هذا الوثوب فيقول:
ويطلق القرآن، والمراد به المعنى القائم بالنفس الذي هو صفة من صفاته، وعليه يدل هذا المتلو، وذلك محل نظر المتكلمين.
وأخرى، ويراد به الألفاظ المقطعة المسموعة، وهو المتلو. وهذا محل نظر الأصوليين والفقهاء وسائر خدمة الألفاظ كالنحاة والبيانيين والتصريفيين واللغويين وهو مرادنا. البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 177).
والمتكلمون ما حرَّفوا معنى كلمة (القرآن) إلا ليسلم لهم قولهم بأن اللفظ مخلوق، واللغة خصمهم في ذلك، إذ أنها لا تسمح بإطلاق لفظ (القرآن) على ما لا يُقرأ ولا يجمع.
ولو سلمنا لهم بأن اللغة تسمح بإطلاق (القرآن) على الكلام النفسي، لكان هناك قرآنان – أحدهما الكلام النفسي -، والآخر الكلام اللفظي الدال على الكلام النفسي.
ولو قالوا بالاشتراك اللفظي فلن يهربوا من ذلك أيضًا، فالقرآن عندهم وضع للكلام النفسي، ووضع للكلام اللفظي، واللفظي وإن كان دالاًّ على النفسي إلا أنه غيره، بدليل أن اللفظي مخلوق عندهم، والنفسي غير مخلوق.
فتحصل من ذلك أن القرآن عندهم قرآنان:
     أحدهما: النفسي القديم غير المخلوق.
     والثاني: اللفظي المخلوق، وهو ما بين الدفتين، وهو الذي يتجزأ إلى ثلاثين جزءًا وأربعة وعشرة ومائة سورة. 
يقول الحافظ ابن جرير الطبري إمام المفسرين:
فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا: القرآن كلام الله وتنزيله؛ إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه: كلام الله غير مخلوق كيف كتب وحيث تلي وفي أي موضع قرئ، في السماء وجد، وفي الأرض حيث حفظ، في اللوح المحفوظ كان مكتوبا، وفي ألواح صبيان الكتاتيب مرسوما، في حجر نقش، أو في ورق خط، أو في القلب حفظ، وبلسان لفظ، فمن قال غير ذلك أو ادعى أن قرآنا في الأرض أو في السماء ([2]) سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائنا به، فهو بالله كافر، حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء، بقول الله عز وجل: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج: 22] ، وقال وقوله الحق - عز وجل -: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] . صريح السنة (ص 24).

فدل ذلك على أن القرآن الغير مخلوق هو الذي يُسمع، وهو الذي يُتلى ويُحفظ، وأن من قال أن هناك قرآنا غير مخلوق سوى ما نتلوه فهو كافر حلال الدم.
والأشعرية يقولون بأن القرآن قد يُطلق ويُراد به الكلام النفسي، وقد يُطلق ويُراد به الكلام اللفظي الدال عليه، إما على طريق الحقيقة في أحدهما والمجاز في الآخر، أو الاشتراك اللفظي، وكثير منهم يرجح الاشتراك اللفظي، وهذا يعني أن القرآن قد وضع لكل منهما بوضع مستقل، وهذا صريح في أنهم يثبتون قرآنين: أحدهما النفسي القديم، والآخر اللفظي الدال عليه.
والإمام الطبري - رحمه الله - يكفر من اعتقد بوجود قرآنين، إلا أنه يمنع من تكفير الأشعرية تأولهم
والأشعرية يقولون بأن ما يُتلى ويُسمع ويُحفظ ليس عين كلام الله، بل هو عبارة عنه، ودال عليه، ولا شك أن الدال غير المدلول، والعبارة غير المعبر عنه، فالقرآن الغير مخلوق عندهم ليس هو الذي نتلوه بألسنتنا أو نكتبه في مصاحفنا، وهذا كفر بالله العظيم – كما قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى -، لكننا لا نكفر أهل الكلام لتأولهم، والتأويل من موانع التكفير.
ونقول للأشعرية أيضًا: لو كان مراد الأئمة بقولهم (من قال القرآن مخلوق فهو كافر) أن من قال بخلق الكلام النفسي القديم فهو كافر، فأخبرونا – يا معشر الأشعرية – من هم الذين قالوا أن الكلام النفسي مخلوق ومن ثم حكم العلماء بكفرهم؟ أم أنهم حكموا على قائل لا وجود له؟!
ثم إذا كان الخلاف بين أهل الحق وأهل الباطل في إثبات الكلام النفسي من عدمه، فلماذا لم ينطق السلف بكفر – أو على الأقل بتبديع - من ينفي الكلام النفسي؟! وفي الوقت ذاته يحكمون بالكفر على طائفة لا وجود لها؟!
إن هذا لا يمكن صدوره من طالب علم غيور على دين الله؟ فكيف بالأبطال أئمة الإسلام؟!

الأشعرية واللفظية:


ولقد وصف أئمة السلف من قال (لفظي بالقرآن مخلوق) بأنه جهمي، وكفروه، أو على الأقل ضللوه وبدعوه.
وذلك لأن هذا القول (لفظي بالقرآن) يحتمل معنيين:
إما التلفظ والتلاوة، وهي بلا شك مخلوقة؛ لأنها أفعال العباد.
وإما الملفوظ والمتلو، وهو القرآن العربي.
واللفظية الجهمية أرادوا الثاني؛ لأن الجهمية لا تقول بخلق أفعال العباد، وإنما قالوا هذا القول بعد أن قويت شوكة أهل السنة، لما رفع الله بالمتوكل المحنة، فنصر به السنة وأهلها ([3])، وأمر المتوكل أهل السنة بالتحديث بأخبار الصفات، فابتدع الجهمية هذا اللفظ المجمل وأرادوا به الملفوظ، فحذر منهم أئمة السلف لذلك.
ولا شك أن هذا القول (لفظي بالقرآن مخلوق) لا يحمل أي معنى باطل عند الأشعرية، فسواء حمل على التلفظ والتلاوة، أو حمل على الملفوظ والمتلو، فكلاهما عند الأشعرية مخلوق، وعليه فإما أن يكون الأشعرية مخالفين للسلف، أو أن السلف ظلموا اللفظية وافتروا عليهم لما بدعوهم بمقالة ليس فيها أي شيء باطل.
فالقول بأن الملفوظ والمتلو مخلوق هو قول الجهمية عينه، وتابعهم في ذلك الأشعرية، فالأشعرية سلفهم الجهمية، وليس أئمة أهل السنة والجماعة.
وقد حرف الآمدي في "أبكاره" مراد السلف، فقال: وعلى هذا منعوا من إطلاق القول: بأن لفظ القارئ بالقرآن مخلوق؛ لأن اللفظ منبئ عن الطرح، والإلقاء، ولم يرد به الشرع؛ ولم يمنعوا من ذلك في قول القائل: لفظ القارئ بقراءته مخلوق. (1/ 368).
وهذا باطل من وجوه لا يسع المقام لبسطها، لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى أن السلف لم يمنعوا من هذا القول فحسب، بل ضللوا من قاله، وكفره كثير منهم، وحكموا بتجهمه، ولو كان عدم وروده مانعًا لما احتاج الأمر إلى تكفير وحكم بالتجهم.
ولقد سمى الله – تعالى – القول لفظًا حيث قال: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
على أن مثل هذا التحريف لا يغير من الواقع شيئًا.
وأخرج الإمام أبو داود في مسائله عن أحمد: ثنا أحمد بن إبراهيم، قال: سألت أحمد بن حنبل، قلت: " هؤلاء الذين يقولون: إن ألفاظنا بالقرآن مخلوق؟ فقال: هذا شر من قول الجهمية، من زعم هذا، فقد زعم أن جبريل صلى الله عليه وسلم جاء بمخلوق وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بمخلوق. (ص 363 برقم 1754).
وهذا نص في غاية الوضوح في أن الغير مخلوق هو الذي جاء به جبريل، وهو الذي يتكلم به النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن جبريل ما نزل والنبي – صلى الله عليه وسلم – ما تكلم إلا بهذا القرآن العربي.
وتضليل اللفظية ليس مذهب أحمد فحسب، بل هو مذهب أهل السنة جميعًا، يقول أبو عمرو الداني: وقول أحمد هذا قول جميع أهل السنة، من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. الرسالة الوافية (ص 157).
إلا أن مذهب أبي عمرو الداني في صفة الكلام فيه نظر.

القرآن الغير مخلوق عند السلف يتبعض وله أول وله آخر


أخرج ابن أبي حاتم في "الرد على الجهمية": حَدَّثَنَا زكريا بن داود بن بكر النيسابوري ([4]) حَدَّثَنَا أحمد بن سعيد الدارمي ([5]) قَالَ قلت لأحمد بن حنبل: أقول لك قولي وإن أنكرت منه شيئًا فقل إني أنكره قلت: له نحن نقول القرآن كلام اللَّه من أوله إلى آخره ليس منه شيء مخلوق، ومن زعم أن شيئًا منه مخلوق فهو كافر فما أنكر منه شيئًا ورضيه.
نقله ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 45- 46).
فانظر إلى قوله (من أوله إلى آخره) يدلك على أن القرآن غير المخلوق له أول وله آخر، كما أنه يتبعض؛ لأنه قال (ليس منه شيء) و"من" للتبعيض.
والأشعرية يقولون أن الذي يتبعض وله أول وآخر مخلوق، وهذا كفر – كما يقول ذلك أبو جعفر الدارمي ورضيه الإمام أحمد -.

مذهب الأشعرية في الكلام النفسي يوجب الاضطرابوله إشكالات ليس لها جواب حتى عند أئمتهم:


ولأجل ما ذهب إليه الأشعرية فإننا نراهم مضطربين في مسألة سماع كلام الله – تعالى –، وما هو الذي يُسمع أهو النفسي أم اللفظي المخلوق – عندهم –؟ وما هو الذي سمعه نبي الله موسى – عليه السلام –؟!
ثم نقول له: أخبرونا عن الذي سمعه نبي الله موسى – عليه السلام – أهو اللفظي الدال على كلام الله – تعالى –؟ أم هو النفسي؟
فإن قالوا بالأول: لم يكن لنبي الله موسى أي خصيصة بكونه كليم الله، بل لو قيل إن الله خلق الكلام في الشجرة – كما هو مذهب المعتزلة وبعض الأشعرية – فإن هذا يقتضي أن الصحابة أفضل في هذه الناحية من نبي الله موسى – عليه السلام – وأولى بوصف (كليم الله) منه؛ لأن الجميع لم يسمع عين كلام الله، بل سمع الدال عليه، فنبي الله موسى – عليه السلام – سمع هذا الدال من الشجرة، والصحابة سمعوه من النبي محمد – صلى الله عليه وسلم –، ولا شك أن السماع من النبي – صلى الله عليه وسلم – أفضل من السماع من الشجرة.
وإن قالت الأشعرية: بل سمع موسى كلام الله النفسي، أي خلق الله له إدراكًا فَهِم به هذا الكلام النفسي.
فنقول لهم: وعلى فرض التسليم بذلك، فأخبرونا أسمع نبي الله موسى – عليه السلام – كلام الله كله أم بعضه؟
فإن قالوا: سمعه كله – ولن يقولوا - ضلوا ضلالا بعيدًا؛ لأنه يلزم منه أن يكون قد سمع غير متناهٍ في وقت متناهٍ، وعلم الغيب كله ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وإن قالوا: سمع بعضه، بطل أصلهم الذي أصلوه أن كلام الله لا يتبعض.
ثم إن قولهم بالكلام النفسي واتحاد الكلام، عليه إشكالات عظيمة، جلبوها لأنفسهم لما حادوا عن طريق السلف الصالح – رضوان الله عليهم -.
تلك الإشكالات التي أقر الآمدي بعجزه عن الجواب عليها، حيث قال: والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام، وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات، فمشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله. أبكار الأفكار (1/ 400).
ولا زلنا ننتظر هذا الغير ليجيب عما عجز عنه الآمدي!

القرآن الغير مخلوق عند السلف هو القرآن العربي:


لما حدثت الفتنة بين أهل السنة احتجت الجهمية على خلق القرآن بقوله – تعالى –: {إنا جعلناه قرآنا عربيًّا}.
فرد عليهم الإمام أحمد بأنه ليس كل مجعول مخلوقًا، فقد قال – سبحانه وتعالى –: {فجعلهم كعصف مأكول} ولم يخلقهم كعصف مأكول.
وقال – سبحانه – عن الكفار: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} ولم يخلقوهم!
وينقل لنا صالح ابن الإمام أحمد هذه المحنة فيقول: قال أبي: فلما كان ليلة الرابعة بعد عشاء الأخرة وَجَّه - يعني المعتصم - ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد! إنها والله نفسك انه قد حلف أن لا يقتلك بالسيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، أليس قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أفيكون مجعولا إلا مخلوقا؟!
قال أبي فقلت فقد قال الله تعالى {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم؟!
قال: فقال: اذهبوا به. سيرة الإمام أحمد لابنه صالح (ص 53).
أقول: ولو كان القرآن العربي مخلوقًا – كما تزعم الأشعرية – وكانت هذه عقيدة السلف، لقال لهم الإمام أحمد أن القرآن العربي مخلوق فلا حجة لكم في قوله – تعالى –: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا}؛ لأن هذا دليل في غير محل النزاع، فالآية تتكلم عن القرآن العربي وهذا لا ننازع في كونه مخلوقًا.
فلو كان النزاع في إثبات الكلام النفسي، وأنه غير مخلوق، لما استدل المعتزلة عليه بهذه الآية، ولما أجاب عليهم بهذا الجواب.

القرآن الغير مخلوق عند السلف هو المكتوب في المصاحف


يقول الإمام البخاري – رحمه الله تعالى –: فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المَسْطور المكتوب المُوعَى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق، قال الله – تعالى –: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}. خلق أفعال العباد (ص 70).

الأشعرية يصرحون بموافقتهم للمعتزلة في خلق القرآن الذي نقرؤه


يصرح الأشعرية بأنهم موافقون للمعتزلة في كون القرآن العربي مخلوقًا، وأنه لا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف في إثبات الكلام النفسي.
فالأشعرية يثبتون الكلام النفسي ويقولون أنه قديم ليس بمخلوق، والقرآن العربي دالٌّ عليه، أما المعتزلة فيقولون أن الكلام هو ما كان بحرف، فكلام الله عندهم هو القرآن العربي، وإضافته إلى الله – تعالى – إضافة خلق كما يُقال: (ناقة الله، وبيت الله).
والمتكلمون – معتزلة وأشاعرة – يقولون أن القديم غير مخلوق، والحادث مخلوق، وعليه فإن الأشاعرة يقولون بأن كلام الله – تعالى – غير مخلوق؛ لأنه الكلام النفسي القديم، والمعتزلة يقولون أن كلام الله – سبحانه - مخلوق؛ لأنه الكلام اللفظي الحادث.
فمن حيث كون الكلام مخلوقًا وعدمه هم متفقون على هذا الأساس أن كل قديم ليس مخلوقًا، وكل حادث مخلوق، ثم يأتي الخلاف: هل كلام الله نفسي قديم؟ أم لفظي حادث؟
بالأول قالت الأشعرية، وبالثاني قالت المعتزلة.
فالخلاف منحصر في هذه الناحية، في حين أن المتأمل للخلاف بين السلف يقطع بأنه خلاف في كون القرآن العربي مخلوقًا أو غير مخلوق، وليس الخلاف بين السلف والمعتزلة في إثبات الكلام النفسي البتة.
يدل على ذلك أنك لن ترى ذكرا لإثبات الكلام النفسي صفة لله – تعالى – في كلام السلف أبدًا ([6])، بل ترى أقوالهم متظاهرة على ضد ذلك، فإن أقوالهم في غاية الوضوح في أن الغير مخلوق هو القرآن، وهو العربي، وهو الذي يتجزأ ويتبعض، وهو الذي يحفظ ويتلى، إلى غير ذلك من أقوالهم.
ولقد صرح كثير من علماء الأشعرية بموافقتهم للمعتزلة في القول بخلق القرآن العربي.
فهذا الجويني يقول في كتاب الإرشاد: فإن معنى قولهم [يعني المعتزلة] (هذه العبارات كلام الله) أنها خلقه، ونحن لا ننكر أنها خلق، لكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلمًا به، فقد أطبقنا على المعنى، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته. الإرشاد للجويني (ص 116- 117).

وهذا الفخر الرازي ذكر استدلال المعتزلة بقوله – تعالى –: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} ثم قال: أن هذا الذي ذكرتموه حق، وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة، وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه، بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة. مفاتيح الغيب (27/ 617).
ويقول الإيجي: وقالت المعتزلة أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث، وهذا لا ننكره لكنا نثبت أمرا وراء ذلك، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات. المواقف (3/ 129).
وقال الجرجاني في شرحه: وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره، بل نقول به ونسميه كلامًا لفظيًّا، ونعترف بحدوثه ([7]) وعدم قيامه بذاته تعالى. شرح المواقف (8/ 106).

وهذا أحد أئمة الماتريدية وهو التفتازاني يقول: ثم تحقيق الخلاف بيننا وبينهم - المعتزلة - يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف، وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي. شرح العقائد النسفية (ص 165- 166).
وكذا قال ملا علي القاري في "منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر" (ص 95).

وقال البوطي وهو يحكي مذهب الأشاعرة والمعتزلة: وقال البوطي وهو يحكي مذهب الأشاعرة والمعتزلة: ثم إن المعتزلة فسروا هذا الذي أجمع المسلمون على إثباته لله – تعالى – بأنه أصوات وحروف يخلقهما الله – تعالى – في غيره كاللوح المحفوظ وجبريل، ومن المعلوم أنه حادث وليس بقديم، ثم إنهم لم يثبتوا لله – تعالى – شيئًا آخر من وراء هذه الأصوات والحروف تحت اسم: الكلام.
أما جماهير المسلمين – أهل السنة والجماعة – فقالوا: إننا لا ننكر هذا الذي تقوله المعتزلة، بل نقول به، ونسميه كلامًا لفظيًّا، ونحن جميعًا متفقون على حدوثه، وأنه غير قائم بذاته – تعالى –؛ من أجل أنه حادث، ولكنا نثبت أمرًا وراء ذلك، وهو الصفة القائمة بالنفس والتي يعبر عنها بالألفاظ، وهي غير حقيقة العلم والإرادة. كبرى اليقينيات الكونية (ص 125).
فانظر كيف أنه أقر بأن الأشاعرة والماتريدية – أهل السنة في نظره – متفقون مع المعتزلة في خلق القرآن، أو ما يسمونه الكلام اللفظي، وأنه لا خلاف بينهم في ذلك.
وإنما الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة في إثبات الكلام النفسي فحسب، ومع ذلك فيظهر من كلام البوطي أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة لفظي، حيث يقول في نفس الصفحة:
إذا تأملت فيما ذكرناه، أدركت النقطة الخلافية بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة [8]، وهي أن هنالك معنى لألفاظ القرآن يتكون منه الأمر والنهي والإخبار المتوجه إلى الناس وهو قديم، فما اسم هذا المعنى:
المعتزلة: اسمه العلم، إذا كان إخبارًا، والإرادة إذا كان أمرًا أو نهيًا.
الجمهور: اسمه الكلام النفسي، وهو صفة زائدة على كل من العلم والإرادة، قائمةً بذاته – تعالى –. ا.هـ.
أقول: وكون الخلاف لفظيًّا بين المعتزلة والأشعرية حقيقة، وإن تظاهر الأشعرية بإنكارها، فإن المعتزلة يثبتون معاني القرآن، لكنهم يسمونه علمًا أو إرادة، وأما الأشعرية فيسمونه كلامًا نفسيًّا، وإذا ثبت أن الكل يثبت ذلك فالتسمية لا تضر.
كما أنهم متفقون على خلق القرآن العربي، فأي موافقة لمذهب السلف وبراءة من المعتزلة يدعيها الأشعرية والماتريدية؟!
ومع كون البوطي يرجح مذهب الأشعرية إلا أنه يعتقد الخطب يسيرًا، حيث يقول في الصفحة ذاتها: ولا ندخل – بعد عرفت نقطة الوفاق والخلاف – في شيء من المناقشة والجدال اللذين قاما حول هذا البحث؛ لاعتقادنا بأن الخطب أيسر من ذلك. ا.هـ.

تصريح أهل الكلام بأن القرآن العربي مخلوق


ويقول التفتازاني : ولما صرَّح [أي النسفي] بأزلية الكلام حاول التنبيه على أن القرآن أيضًا قد يطلق على هذا الكلام النفسي القديم، كما يطلق على النظم المتلو الحادث. شرح العقائد النسفية (ص 164).

يقول ملا علي القاري: التحقيق أن كلام الله – تعالى – اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفةً لله – تعالى –، وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله – تعالى – ليس من تأليفات المخلوقين. منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر (ص 92).

ويقول الكوثري: والواقع أن القرآن في اللوح، وفي لسان جبريل – عليه السلام –، وفي لسان النبي – صلى الله عليه وسلم –، وألسنة سائر التالين وقلوبهم وألواحهم مخلوق حادث محدث ضرورة، ومن ينكر ذلك يكو ن مسفسطًا ساقطًا من مرتبة الخطاب. مقالات الكوثري (ص 44).

وما استدل به الكوثري عن الإمام أحمد لا حجة له فيه؛ لأننا لا نقول إن لفظ القرآن من الله فحسب، بل نقول: القرآن لفظًا ومعنًى من الله - تعالى -.
على أنه لا يجوز له أن يستدل بكلامٍ للإمام أحمد؛ لأنه - على مذهبه - حشوي، ثم لماذا يتمسك بمثل هذا الأثر الذي لا حجة فيه، ويتعامى عن الآثار الثابتة عن الإمام أحمد في إثبات الصوت لله - تعالى -، وأن كلامه العربي والذي يتبعض غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر؟!!!
ويقول الباجوري: ومذهب أهل السنة ([9]) أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق.
ولكي لا يعرف الناس أن عقيدتهم القول بخلق القرآن استدرك قائلاً : لكن يمتنع ان يُقال: القرآن مخلوق ويُراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم؛ لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه – تعالى – مخلوق. (ص 160).
وكرر هذا التنبيه لئلا تفتضح عقيدتهم أمام العوام فيقول: لكن يمتنع أن يُقال: القرآن مخلوق، إلا في مقام التعليم كما سبق. (ص 162).

بل يتجرأ الباجوري – سامحه الله – ويدعي أن الأئمة لم يمتنعوا عن القول بخلق القرآن لأجل أنه ليس مخلوقًا، بل حتى لا يتوهم الناس أن المخلوق هو الكلام النفسي، فيقول بعد أن ذكر هذه العلة: ولذلك امتنعت الأئمة من القول بخلق القرآن. حاشيته على جوهرة التوحيد (ص 160).


ويقول أيضًا: ومع كون اللفظ الذي نقرؤه حادثًا لا يجوز أن يُقال: القرآن حادث إلا في مقام التعليم؛ لأنه يُطلق على الصفة القائمة بذاته أيضًا – لكن مجازًا على الأرجح –، فربما يتوهم من إطلاق أن القرآن حادث أن الصفة القائمة بذاته – تعالى – حادثة، ولذلك ضُرِب الإمام أحمد بن حنبل، وحُبِسَ على أن يقول بخلق القرآن فلم يرضَ. (ص 130).

هكذا يقول الباجوري، لكنني أقول له ولمن يقول مقالته هذه: لو كان الأمر كما تقولون، أفليس في امتناع الأئمة إيهام للناس بأن القرآن العربي ليس مخلوقًا، سيما وأن الجهمية والمعتزلة يقولون بأن المخلوق هو القرآن العربي وكان النزاع عليه؟!
فلو كان في نطقهم بخلق القرآن إيهام بأن المخلوق هو النفسي – كما تدعون –، لذا امتنعوا عنه، فإن في سكوتهم – أيضًا – إيهامًا بأن العربي ليس مخلوقًا، فتساوى النطق والسكوت في حصول الإيهام، وليس ثمت مخرج منه إلا بالتفصيل، فلماذا لم يفصل السلف ويقولون بأن النفسي غير مخلوق، والعربي مخلوق؟!
أليس البيان عليهم واجبًا؟! كي لا يكونوا كاليهود والنصارى الذين قال الله فيهم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}؟!
هب أنهم تركوا التفصيل لعلمهم بأن هذه عقيدة راسخة في قلوب سائر الناس لا تحتاج إلى تفصيل، فلماذا هجروا وحذروا ممن فصل وأثبت الكلام النفسي كابن كلاب؟!
بل ويقول الباجوري أن الحق أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أفضل من القرآن، فيقول: وهل القرآن – بمعنى اللفظ المقروء – أفضل أو سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -؟
تمسك بعضهم بما يروى (كل حرف خير من محمد وآل محمد) لكنه غير محقق الثبوت.
والحق أنه – صلى الله عليه وسلم – أفضل؛ لأنه أفضل من كل مخلوق. حاشيته على جوهرة التوحيد (ص 161).

وينقل لنا محمد سعيد البوطي اتفاق من يسميهم أهل السنة – وهم الأشاعرة والماتريدية – مع المعتزلة على خلق القرآن الذي نقرؤه ونسمعه، ومن العجيب أنه استثنى من هذا الاتفاق الإمامَ أحمد بن حنبل وبعض أتباعه.
حيث يقول: وأما الكلام الذي هو اللفظ، فاتفقوا على أنه مخلوق، وعلى أنه غير قائم بذاته – سبحانه –، باستثناء أحمد بن حنبل وبعض أتباعه، فقد ذهبوا إلى أن هذه الحروف والأصوات – أيضًا – قديمة بذاتها، وأنها هي المعني بصفة الكلام. كبرى اليقينيات الكونية (ص 126).

ويقول أيضًا: ومعظم ما تسمعه من الأصداء الرهيبة للخلاف التاريخي في هذه المسألة، إنما منشؤه الخلاف بين أحمد بن حنبل – رضي الله عنه – والفرق الأخرى كالجهمية والمعتزلة. (ص 127).





([1]) لعله يقصد صفة الكلام، فإنها قديمة، أما إن كان يقصد القرآن الذي نسمعه - كما هو ظاهر السياق - فإن مراده بقديم - أي غير مخلوق بدليل مقابلة هذا القول بقول المعتزلة أنه مخلوق، وإلا فإن أحدًا من السلف ما قال أن القرآن قديم؛ قال الذهبي – رحمه الله تعالى –: ولم يأت عنه ولا عن السلف القول: بأن القرآن قديم، ما تفوه أحد منهم بهذا.
فقولنا: قديم، من العبارات المحدثة المبتدعة، كما أن قولنا: هو محدث، بدعة. السير (11/ 510).
([2]) ولا يمكن التملص من ذلك بالقول بأن الكلام النفسي ليس في السماء ولا في الأرض؛ لأن الله ليس في السماء، فإن الإمام الطبري يقول أن الله في السماء، كما فسر بذلك آية الملك: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) وهو الله (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا). جامع البيان (23/ 513).
ونصوصه في إثبات العلو أشهر من أن تذكر.
([3]) وبالمناسبة فإن الكوثري – رافع لواء الجهمية في هذا الزمان – يصرح بأن الذين قربهم المتوكل هم الحشوية، حيث قال معلقًا على كلام للحافظ خشيش بن أصرم في كتاب "التنبيه والرد على على أهل الأهواء والبدع" للملطي العسقلاني: إلا أن خشيشًا من النقلة الذين لا يعون ما يقولون، بل يتقولون ما يسألون عنه يوم القيامة؛ لأنه من هؤلاء الحشوية الذين قربهم المتوكل بعد رفع محنة القول بخلق القرآن، فلا يؤخذ منه علم أصول الدين، وله رجال سامحهم الله. ا.هـ. (ص 92).
فإذا أردنا أن نعرف من هم الحشوية الذين قربهم المتوكل، فإننا نجد أنهم أهل السنة، فقد قال الحافظ السيوطي: يقول الإمام السيوطي – رحمه الله – في ترجمة الخليفة المتوكل على الله: وبويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وبعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وفي سنة أربع وثلاثين، واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. تاريخ الخلفاء (ص 252).
([4]) هو أبو يحيى الخفاف، قال عنه الحاكم كما في "تاريخ الإسلام" (6/ 751): المقدم في عصره. وقال عنه الخطيب: وكان ثقة. تاريخ بغداد (9/ 478)، وذكره ابن قطلوبغا في "الثقات" (4003).
([5]) وهو غير الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، وأحمد بن سعيد الدارمي هذا هو أبو جعفر قال عنه أحمد بن حنبل كما في "الكاشف" و"تاريخ بغداد" : ما قدم علينا خراسانى أفقه بدنا منه.
وقال حجاج الشاعر لما ذكر له أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة وأبو جعفر الدارمي: ما بالمشرق قوم أنبل منهم.
وقال عنه أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن عطاء: وَكَانَ أحد حفاظ الحديث، المتقن الثقة، العالم بالحديث وبالرواة.
وقال عنه الخطيب: وكان ثقة ثبتًا. تاريخ بغداد (5/ 272- 274).
([6]) وأما ابن كلاب فقد أنكر عليه أئمة السلف، فقوله لا يعتبر خرقًا للإجماع، بل يقول الحافظ أبو طاهر السِّلَفي – كما في السير (21/ 35):
وأتباع ابن كُلاب كِلابُ        على التحقيق هم من شر آل
([7]) ومرادهم بالحدوث الخلق؛ لأن كل مخلوق حادث، وكل حادث مخلوق، كما قال التفتازاني: وأقام غير المخلوق مقام غير الحادث تنبيها على اتحادهما. شرح العقائد النسفية (ص 164).
([8]) يقصد بهم الأشاعرة والماتريدية.
([9]) بزعمه، وهم الأشاعرة، وليسوا من أهل السنة، بل هم أعداءٌ ألداء لها، ويتزيون بزي السنة، ويلقبون أنفسهم بأنهم أهلها، وهم من أبعد من يدعي السنة عن السنة، والسنة منهم براء.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوضة لذى | السياسة الخصوصية | Contact US | إتصل بنا

تعديل : عبدالرحيم